هل دقّت ساعة
هجرة اليهود من أوروبا؟
بـ “كيبورد” حسان الخوري
لم يحزم يهود أوروبا حقائبهم بعد إستعدادًا لمغادرتها، لكن السؤال لم يعد تنظيريًا أو إفتراضيًا، بل مطروحًا متداولًا، فهناك مؤشرات على أن موسم الهجرة الجماعية قد غدا على الأبواب، أو على الأقل على أن الأجواء أضحت مهيأة وناضجة في المجتمعات اليهودية الأوروبية لهجرة مماثلة وإن تكن هناك في الوقت نفسه بعض المؤشرات التي تشير إلى عكس ذلك. والسؤال مشروع فالصهيونية قامت أصلًا لإيجاد وطن بديل لليهود خارج أوروبا كردة فعل ضد قضية دريفوس في فرنسا والمذابح في روسيا.
في مقدمة هذه المؤشرات ما ذكرته شبكة التلفزة الاميركية “سي ان ان” من أن إسرائيل تشهد أكبر هجرة لليهود إليها من أوروبا الغربية منذ قيام الكيان الصهيوني، وقدرت عدد الذين وصلوا اليها من فرنسا خلال عام بعد الهجوم على مجلة شارلي ايبدو بـ 8800 شخص، وإن بريطانيا تحتل المرتبة الثانية من حيث عدد المهاجرين اليهود منها إلى إسرائيل.
ومن المؤشرات الأخرى إستطلاع جرى مؤخرًا في بريطانيا كشف أن ربع اليهود البريطانيين البالغ عددهم 300 ألف يفكرون في مغادرتها، وتشكل هذه النسبة ضعف النسبة التي سجلت في إستطلاع مماثل جرى قبل عام.
يرد مروجو الهجرة اليهودية الأمر إلى تنامي عدد اليهود الذين يلمسون أو يشعرون أن لا مستقبل لهم في أوروبا، ويرون أن هذه المشاعر ستقوى وتتسع دائرة إنتشارها مع تردي الأوضاع في القارة، وبالتالي تصاعد الضغوط على اليهود، وإنطلاقًا من هذه القناعة يرون أنه من الأفضل الرحيل الأن، وهم لا يزالون يملكون الإمكانات لاحقًا حيث سيكون وضعهم أكثر سوءا كلاجئين.
في الواقع الاوضاع تزداد صعوبة بالنسبة لليهود، الإحصاءات تكشف أن عدد الحوادث المعادية للسامية في بريطانيا بلغ 1168 حادثا، وهو أعلى رقم منذ العام 1984 وضعف العدد المسجل قبل عام.
التحريض على الهجرة
من المؤشرات على بداية الهجرة اليهودية من أوروبا، وبصورة أدق على تهيئة الاجواء لهذه الهجرة الخطاب الذي ألقاه رئيس المؤتمر اليهودي العالمي المليونير الإميركي رونالد لودر في مطلع العام الفائت بمناسبة الذكرى الـ 70 لتحرير مخيم أوسشويتز وقال فيه أن أوروبا اليوم أشبه بالعام 1933 وليس العام 2015، وأشار إلى أن الأطفال اليهود يخشون من إرتداء القبعة اليهودية في شوارع باريس وبودابست، ونهب المتاجر اليهودية والإعتداءات على المعابد اليهودية، ملمحًا إلى هجرة لليهود من أوروبا تتم بوتيرة بطيئة.
تدنيس الثقافة
هناك مغالطتان رئيسيتان في أقوال لودر. المغالطة الأولى أن إسرائيل لم تكن موجودة في العام 1938، وبالتالي لن يتعرض يهود أوروبا اليوم لما تعرضوا له آنذاك عندما سدت في وجوههم أبواب الدول الأخرى، فإسرائيل تفتح لهم ذراعيها لهم. المفارقة الثانية أن القيادة الإلمانية التي وصلت إلى الحكم في العام 1933 اعلنت جهارًا أنها ضد اليهود، أما اليوم، فإن القيادة الإلمانية الراهنة تعتبر من أشد المدافعين عنهم. بل ذهبت المستشارة أنجيلا ميركل إلى إعتبار أن دعم أمن إسرائيل جزء من علة وجود إلمانيا، وقد قالت في تجمع ضد العداء للسامية في برلين: «كل من يؤذي مرتديًا قلنسوة يهودية يؤذينا كلنا، وكل من يدنس بمقبرة يهودية يدنس ثقافتنا، وكل من يعتدي على كنيست يعتدي على أساسات مجتمعنا الحر».
في فرنسا تصدر عن رئيس الحكومة الإشتراكي والمرشح المحتمل للرئاسة مانويل فالس مواقف مشابهة، فهو يقول أن فكرة فرنسا تقوم على قمع العداء للسامية، وقد إتخذت الثورة الفرنسية هذا القرار قي العام 1789 عندما إعترفت باليهود كمواطنين كاملي المواطنية.
ولا يختلف موقف رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون عن موقفي ميركل وفالس .
لكن يبدو أن هذه المواقف لم تتحول إلى قناعات عامة، فكاميرون يقول مثلًا أنه من الخطأ وعدم الإنصاف أن تلقى مسؤولية السياسة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية على أبواب المجتمعات اليهودية في أوروبا لكن إحدى المحاكم في المانيا إعتبرت أن إحراق كنيست ليس عملًا معاديًا للسامية، بل للفت الإنتباه إلى قضية غزة، ويذكر أنه لدى الإعتداء على أحد المعابد اليهودية في باريس في العام 1980 أدلى رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك ريمون بار بتصريح قال فيه أن الإعتداء كان يستهدف اليهود داخل المعبد وأصاب عددًا من الفرنسيين الأبرياء الذين كانوا يمرون في الشارع، وقد لاقى تصريحه موجة إعتراضات لانه ميّز بين اليهود و»الفرنسيين الأبرياء».
وفي إطار تهيئة الاجواء لهجرة اليهود من أوروبا يندرج مقال صدر في مجلة «أتلانتيك» الأميركية، أحالت اليّ نسخة منه السيدة اللبنانية الأصل آمال حوراني الناشطة حاليًا في مجال دمج المجتمعات المتعددة الثقافات والخلفيات في أستراليا. كاتب المقال جيفري غولديرغ قام بجولة على عدد من المجتمعات اليهودية في القارة الأوروبية قابل خلالها كبار المسؤولين والناقدين وزعماء الجاليات اليهودية، وتوصل إلى عدد من الإستخلاصات، إلا أنه إنتهى إلى التساؤل: هل سيغادر اليهود أوروبا؟ دون أن يحسم المسألة بشكل قاطع، ما بدا أشبه بتهيئة الأجواء لهذا الرحيل، حيث ينقل عن أحد المفكرين اليهود الفرنسيين قوله: «علينا البقاء، لكن ربما لن يتوفر هذا الخيار لأبنائنا وأحفادنا».
المروجون لهجرة اليهود من أوروبا يلفتون إلى أن عدد اليهود في فرنسا يبلغ 475 ألفًا، ما يمثل أقل من 1% من إجمالي عدد المواطنين، لكن 51% من إجمالي الإعتداءات العنصرية في العام الماضي إستهدفتهم حسب إحصاءات وزارة الداخلية الفرنسية. الإحصاءات في بريطانيا متقاربة.
كما ينبش المروجون للهجرة الماضية بقولهم أن أوروبا تاريخيًا لم تكن يومًا ودودة لليهود، فهي التي أضافت إلى القاموس الكوني عبارات: محاكم التفتيش، الغيتو، هولوكست، بوغروم (مذبحة) .. إلخ. نسبت إليهم بصورة عامة موسوعة من الذنوب والجرائم. في نظر الكنيسة كانوا قتلة المسيح. في نظر آخرين كانوا المرابين الذين طردهم المسيح من الهيكل، وما زالوا. يذبحون أطفال المسيحيين كي يستخدموا دماءهم في طقوسهم الدينية، وهم مسممو المياه وناشرو الأوبئة، والذين أوجدوا الرأسمالية والشيوعية في آن. هم قبليون وأميون معًا. جبناء ومتعطشون للحروب. يعتقدون أنفسهم أنهم محقون دائمًا. يدّعون التعلق بالقيم فيما هم يلوثون الثقافات.
هتلر لا يزال حيًا
وينتهي المروجون للهجرة إلى القول أن احداث الأعوام الـ15 سنة الأخيرة تكشف عن أن الكراهية لليهود في أوروبا لم تنته مع سقوط برلين قبل 70 عامًا. ففي المجر مثلًا طالب حزب جوبيك اليميني الحكومة بإعداد قائمة بأسماء اليهود في البلاد الذين قد يشكلون خطرًا على الأمن القومي، وفي اليونان كشف إستطلاع حديث أن 69% من البالغين لديهم مشاعر معادية للسامية، فيما يظهر حزب الفجر الذهبي عداء علنا لليهود، وفي تركيا أدلى الرئيس رجب طيب أردوغان بتصريح قال فيه: «إن الذين يدينون هتلر ليلًا نهارًا قد تفوقوا عليه في بربريتهم».
لعل هذه الأجواء هي ما حملت المؤلف هنريك برودر أن يقول في كتابه «المعادي الأبدي للسامية» ساخرًا: لن يغفر الإلمان مطلقًا لليهود ما حصل لهم في اوسشويتز».
لكن المروجين يتغافلون عن أن شخصيات يهودية برزت في فضاء السياسة والفلسفة والفنون والعلوم في أوروبا وتركت بصمات واضحة عليه من أمثال شاغال و كافكا وزولا وأنيشتين وفرويد وليفي- ستراوس ودركهاين وكثيرين غيرهم.
إن دخول العامل الإسلامي يجعل مشهد العداء للسامية في أوروبا اليوم مختلفًا عما كان عليه في السابق، ففي فرنسا يزيد عدد المسلمين اليهود 10 أضعاف، لكنهم أقلية مهمشة ويتعرضون للمضايقات، وأدى عدم إندماجهم في المجتمع الاوروبي إلى تحول مجتمعاتهم إلى تربة خصبة للمتطوعين في المنظمات الإسلامية المتطرفة كالدولة الإسلامية والقاعدة وغيرهما.
وإلى جانب العامل الديني هناك العاملان الإجتماعي والإقتصادي اللذان ينفخان في نار التوترات الإتنية، خصوصا في الاحياء الفقيرة حيث عاش المهاجرون اليهود والمسلمون معًا في سلام منذ الستينات. إن نسبة البطالة مرتفعة في فرنسا وتصل إلى 10%، لكنها تقارب 40% في هذه الاحياء. كما أن المدارس تعاني من الأزمات. العنصرية والفقر يحدان من آفاق سكانها، خصوصا الشبان منهم، فيتحولون إلى مجرمين صغار في مراهقتهم وقتلة جماعيين لاحقًا.
وعبر كل ذلك تتحول أوروبا إلى مايشبه طريقا ذات إتجاهين معاكسين: مسار تودع فيه المهاجرين وطريق لإستقبال اللاجئين.
hvkhoury1@gmail.com