الكتابة وحمّى الخواء

   FullSizeRender

 د. ناتالي الخوري غريب

مجدّدًا، أهجس بتساؤل عن جدوى الكتابة طالما أنّنا نتكلم، نتكلّم كثيرًا، نقول كلّ ما نريد وما لا نريد… بالعينين، بالحاجبين، باليدين، بالصوت، بكلّ الحواس التي فينا، نثرثر، نثرثر كثيرًا…

لماذا نكتب إذًا؟ للمبالغات؟ نبالغ قولًا.

لنخدع أنفسنا؟ نخدعها سرًّا وعلنًا.

لنوهم الآخرين؟ نوهمهم فعلا.

لنستر الخواء؟ حبر التوت لا يستر فم متذوقيه.

لنملأ الفراغ؟ الفراغ غول يأكل المقتربين منه.

لنلهو؟  الزمن ألهوّة في ميادين العبث.

IMG_1813

نكتب أوّلا لندلّل الكلام ويدلّلنا. ومن ثمّ يأكلنا الضجر. نضجر قولًا وفعلا وفكرًا وكتابة. نضجر كثيرًا، نسأم، من القول والمقال والمقول والمكتوب به وعنه وفيه وعليه…

نضجر كثيرًا ونسأم، فتضجر الحياة. نكتب لنلاعب الضجر؟! الضجر بركان ساكن! يبيت فيه شيطان أحمر!

الحياة في المكتوب مرآة مكسورة، كنّسها الخواء… الخواء في العقل في الفكر في النفس. الروح يقاوم وحده. يكتب مقاومته بحبر غير مرئي، بالخواء، بصدى البئر المغلقة. والأرض بئر مغلقة.

الكلّ يهوى المشي على الماء. الماء يجري. الماء لا يقدّم نفسه. عليك أن تجري إليه. في وقفة الضفاف تأمّلٌ يفضي إلى إدراك وقت التحوّل. التحوّل موجع في كلّ مراحله… في الكتابة محاولة لإطالة العمر، كما النسر حين يريد أن يطيل عمره، ينعزل. ينعزل ليكسر منقاره الذي انحنى. ينعزل ليكسر مخالبه من أجل أخرى جديدة، ينعزل لينتف ريشه القديم من أجل رحلة جديدة يقدر أن يلاعب فيها الريح…

على الضفاف الرؤية تعكس لك صورة السماء في الماء. ترى وجهك في السماء مع انّ عينيك إلى الأرض وجهتهما. الماء لا يكذب. ولا أنت تكذب حين تكتب عن وجهك في السماء. لكنّ الحقيقة تتحوّل بالكتابة كذبة. ولا كاذب.

في الكتابة سرّ؟!

طبعًا لا…

في الكتابة هوس البحث؟ البحث عن أسباب تجعلك تطلب إلى الحياة حياة… وأنت تعلم أنّك تطلب العدم من العدم لأجل العدم. هوس هدم الحائط بعد بنائه، تصدّعه بالكتابة المنهزمة. الكتابة لا تعّمر سقفًا. ترسم بابًا فقط، ونافذة.

خطر الكتابة؟ حين تصبح سكناك في هذا البيت حاجة!  حاجة لتستعيد توازنك الذي فقدته بها. حاجة لتحمي نفسك بباب يُنسخ  مفتاحه بقلم رصاص.

حمّى الكتابة؟  حين تظنّ نفسك قادرًا من خلالها على تغيير نفسك وتاليًا تغيير العالم من النافذة التي رسمتَها.

وجع الكتابة؟! وعيك أنّك عاجز عن اقتراف تغيير في تركيب جملة بسيطة أو مركّبة!!

وعيك أنّك عاجز عن ارتكاب خطأ صغير، ولو كان من الأخطاء الشائعة لكي لا تسجّل عليك نقص معرفة بأبسط قواعد اللغة، فكيف بموروثاتك التي تغلغلت في حناياك دهرًا؟!

خطر الكتابة؟! وعيك أنّك عارٍ… حافٍ… جائع… وأنّ للوحل مواسم حين يدلّل نفسه، يلجأ إلى أقلام التلوين يرسم فيها ثوبًا وحذاء وغذاء…

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.