
مريم نصّار

تخيلوا:
5200 هي عدد سنوات لـ 76 حكماً!
أوليس من الأسهل نطق الحكم بالمؤبد؟!
من خلف قضبان الزنزانة تتراءى له “بيت ريما”. قريته الصغيرة المثقلة بوجع الاحتلال. يعود بالذاكرة الى حيث الخليج العربي وأرض الكويت وقصة ذكاء المهندس الصغير، ويرجع بالزمن أكثر، ليغيب في أعماق ذاكرته ويتذكر صبيته الكورية التي كانت ذات يوم ملاذا له. ويعود قليلاً الى الحاضر ليجد نفسه قائداً مقاوماً يحمل سلاحه متوغلاً في الأراضي المحتلة….
لربما آلت إسرائيل إلى السقوط على يده ومن معه…
يستيقظ من غيبوبة الذكريات على صوت سجَّان خائف، يقدِّم إليه وجبة من كسرة خبز وزيتون أخضر، وفي أحسن الأحوال بيضة واحدة.
يراقب السّجان أسيره وهو يمضغ طعامه، لربما فجّر فيه قنبلة موقوتة من حبة بيض! وكيف لأسير أن يطوع بعض الفتات ليحوّلها إلى قنبلة وهو قابع في زنزانة عزل انفرادية، مكث فيها عشر سنوات وخرج منها في الثاني عشر من شهر نيسان/ابريل عام 2012، بعدما خاض اضراباً مفتوحاً عن الطّعام ليحقق مطلبيه، وهما الخروج من العزل والسَّماح له بلقاء والديه اللذين مُنع من رؤيتهما طول اثني عشر عاماً.
بين الواقع والخيال قصصٌ لا تجيء على البال. كتبها بحبر من ظلمٍ وظلام، يستند إلى حائط الزنزانة، لكأنه يرخي تعب سنوات الأسر الطويلة على جذع الزيتونة الوارفة، أما رائحة الرطوبة التي يتنفسها فكأنها رائحة شقائق نعمان نبتت في حقل من خَضار وألوان.
إنه الأسير الفلسطيني عبد الله البرغوثي. الأسير، الذي لم تتمكن إسرائيل من كسره عندما اخضعته طوعاً إلى الحكم الأشد بين أحكامها القضائية، بعدما نجح في تحويل زنزانته إلى قوقعة من كتب وأقلام وأوراق.
ألَّف كتبا عدة، منها رواية عن رحلته ومقاومته لإسرائيل ومعاناته مع والأسر.
سرد حقائقها محافظاً على أسرار المقاومة التي عجز جلاده عن انتزاعها من نياط قلبه.
وألف روايات مَزجت الواقع بالخيال، كقصَّة ماجدة البائسة، التي جعلته يبكي من فداحة ما عانته.
وعليه، فقد مَنحت رابطة الكُّتاب والأدباء الفلسطينيين عضويتها الفعالة للأسير عبد الله البرغوثي في الثالث عشر من شهر آذار/مارس الجاري في قطاع غزة المحتل، بعدما منعت إسرائيل دخول اصداراته إلى القطاع.
جاء هذا بعد إطلاق رواية “الشَّهيد الحي” الصادرة عن دار البرغوثي. وهو الكتاب العاشر الذي يخرج من بين قضبان الزنزانة، والجزء الثاني من روايته “مهندس على الطريق” الصادرة عن الدار نفسها، التي أسستها عائلة البرغوثي في الأردن، وتعنى بنشر وجمع وتوزيع الإصدارات المتعلقة بثقافة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبخاصة الكتب الصادرة عن الأسرى الفلسطينيين داخل المعتقلات والسجون الإسرائيلية، وما يكتب عنهم من أبحاث ودراسات.
السؤال هنا: كيف لأسير أن يُخرج أوراقاً كتبها من بين القضبان والبوابات والأسلاك الشائكة والسجانين لتسافر إلى العالم !؟ لم أكلف على نفسي عناء البحث حتى لا يفهم جلاده اللغز، ونَحرم كاتبنا من متنفسه الوحيد. وحتى لا نُحرم من ابداع ما خطه قلم مقاوم لأسيرٍ قائد…
قام بإعادة تدوين هذه على سلسلة الأدب المريمي.